كانت بريطانيا تحت الاحتلال الإنجليزي حتى تسلمت الولايات المتحدة قيادة العالم بالتفجيرين النووين في أغسطس 1945. قال هيكل في كتابه "قطع ذيل الأسد": كانت مصر الجذاء الذي خلعته بريطانيا ولبسته أميركا! والكلمات لهيكل فيلسوف الناصرية.
ومنذ اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي أصبحت مصر بالنسبة للولايات المتحدة هي: جيش يحمي قناة السوييس وأمن إسرائيل. ومجيء الدكتور مرسي كأول رئيس مدني منتخب هدد هذه المعادلة.
***
أما مصالح بريطانيا مع مصر مختلفة تماما عن المصالح الأميركية، وهي مصالح اقتصادية وأمنية بامتياز. فالذي يعني بريطانيا هو الاستثمارات البريطانية في مصر، والمخاطر الأمنية التي قد تنعكس على بريطانيا من الشرق الأوسط.
كان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أول زعيم دولي يزور مصر عقب ثورة يناير 2011. وحسب جون فرانك مدير التجارة والاستثمار في السفارة البريطانية في القاهرة بلغت حجم الاستثمارات البريطانية في مصر 30 مليار دولار . يأتي في مقدمة الشركات البريطانية التيي تستثمر في مصر شركة الغاز البريطانية، شركة البترول البريطانية "بي بي"، شل، يونيليفر، كادبوري، جلاكسو سميث كلاين، فودافون، وبنكي باركليز واتش اس بي سي.
من ناحية أخرى فإن أول تصريح خرج من بريطانيا على لسان رئيس وزرائها الحالي عقب تقدم ثوار العراق هو أن "المسلحين من عناصر (داعش) الذين يقاتلون في العراق يخططون لمهاجمة بريطانيا.. اختلف مع من يعتقدون أن هذا ليست له علاقة بنا وأنه إذا قام نظام إسلامي متطرف في وسط العراق فلن يؤثر علينا. سيؤثر علينا".
وخرجت تقارير صحفية تؤكد أن أهم المخاطر المحدقة ببريطانيا هي مراقبة الجهاديين العائدين من العراق.
***
جماعة الإخوان المسلمين أكبر جماعة إسلامية سنية في المنطقة والعالم. كل التهييجات والدعاية السوداء التي يمارسها إعلام السيسي يمكنه الضحك به على البسطاء، لكنه لا يغير من الحقيقة في شيء. ما تعلمه بريطانيا عن مصر والإخوان أكثر مما يعرفه السيسي ومحمد إبراهيم.
جماعة الإخوان المسلمين أكبر جماعة إسلامية سنية في المنطقة والعالم. كل التهييجات والدعاية السوداء التي يمارسها إعلام السيسي يمكنه الضحك به على البسطاء، لكنه لا يغير من الحقيقة في شيء. ما تعلمه بريطانيا عن مصر والإخوان أكثر مما يعرفه السيسي ومحمد إبراهيم.
حتى وإن استجابت بريطانيا للضغط السعودي صاحبة الاستثمارات الضخمة في بريطانيا بمراجعة أنشطة جماعة الإخوان في أراضيها فما لبثت جلسات الاستماع التي عقدها مجلس العموم البريطاني أن جاءت في صالح الإخوان. بدا الأمر وكأنه ناتج عن دوافع اقتصادية وليس دوافع أمنية!
***
إن الاستمرار في اضطهاد جماعة الإخوان المسلمين وقمعها سيخلق فراغا لن يملؤه إلا جماعات أكثر تشددا وأكثر قوة ونفاذا وفعالية من ذي قبل! وهذا ما تدركه بريطانيا وكذلك بعض دوائر الحكم في واشنطن وخاصة الكونجرس، الذي قطع 400 مليون دولار من المعونة العسكرية الأميركية للجيش المصري فورا عقب الأحداث في العراق، في محاولة لإمساك العصا من المنتصف، وإبراز أنهم لا يدعمون السيسي على طول الخط.
إن نقل الصراع من صراع سياسي يدور في صناديق الاقتراع إلى حرب تدور بقوة السلاح لتكسير العظام وفرض الرأي على الآخرين له عيوبه كما أن له مميزاته. فعندما فقد السنة في العراق الأمل في التغيير بشكل سلمي وعبر العملية السياسية التي فقدت قيمتها ومصداقيتها، لجأوا إلى حمل السلاح لنيل حقوقهم. وكانت النتيجة غير طيبة على الإطلاق لأميركا وحليفها. انهار جيش المالكي في ساعات وأضحى المسلحون على مشارف بغداد.
هنا يبرز سؤال يفرض نفسه؛ ما الذي يضمن ألا تتكرر التجربة في مصر؟ إذا فقد الشباب الأمل في التغيير بشكل سلمي وإذا استمر اضطهاد جماعة الإخوان المسلمين بهذه الطريقة التي تشبه محاكم التفتيش، ما الذي يضمن ألا تتمدد جماعات كالقاعدة وأنصار بيت المقدس وداعش...إلخ
***
بريطانيا تفهم هذا جيدا وتخشى من تكرار أزمة السفارة الأميركية في إيران 1979 تجاه المصالح البريطانية في مصر، وهي كما أشرنا ضخمة. أذكر أنه عقب مظاهرة كبيرة أمام السفارة البريطانية في القاهرة عقب الانقلاب مباشرة وقبل فض رابعة خرج من الخارجية البريطانية أقوى بيان غربي تجاه الانقلاب في مصر. نفس الأمر تكرر عقب أحكام الإعدام الجماعية بحق الإخوان ومرشدها العام، فخرج بيان من وزير الخارجية البريطاني يطالب بمراجعة أحكام الإعدام ويقول أنها تسيئ للقضاء المصري.
الربط بين التصريحات البريطانية تجاه أحكام الإعدام في مصر والأحداث الأخيرة في العراق يفرض نفسه، فهذه ليست المرة الأولى التي تحدث فيها أحكام إعدام جماعية في مصر، وليس حكم الإعدام الاول بحق المرشد العام الدكتور محمد بديع، ولكنها المرة الأولى التي تصدر فيها أحكام بالإعدام عقب تطورات الوضع في العراق.
***
يتبقى نقطة. يبدو أن الموقف الأميركي نفسه ليس موحدا تجاه ما يجري في مصر. فهناك دوائر في واشنطن وعلى رأسها الكونجرس تتبنى نفس وجهة النظر البريطانية، وترى أن تثبيت عملاء في المنطقة العربية بقوة السلاح فقط لم يعد مجديا. وأنه لابد من النظر إلى حقوق ومطالب جميع الأطراف - خاصة إذا شكلت هذه الأطراف الأغلبية السكانية والانتخابية معا - وأن ممارسة القمع والإقصاء والتهميش بحق هؤلاء غير مأمون العواقب في المستقبل القريب. وأن قمع المعتدلين سيأتي بالأكثر تشددا كما حدث بالعراق.
على الجانب الآخر تقف الخارجية الأميركية موقف التأييد الكامل غير المشروط للانقلاب في مصر. ففي الوقت الذي كانت الإدارة الأميركية تحاول الإمساك العصا من المنتصف عقب الانقلاب وانتظارا لما ستسفر عنه مظاهرات مؤيدي الانقلاب في الشارع، صرح جون كيري وزير الخارجية الأميركي أن الجيش تدخل لاستعادة الديمقراطية!
كيري - الذي خسر الانتخابات أمام أفشل رؤساء الولايات المتحدة وأكثرهم غباء وأقلهم جماهيرية (بوش الابن) - يرى أن السيسي عميل مهم لأميركا سواء في تجريف سيناء أو في إقصاء الإخوان وربما في لعب دور إقليمي في ليبيا أو العراق. لذا فقد أكد كيري للسيسي أن طائرات الأباتشي ستصل مصر as soon as possible وأنه سيقنع الكونجرس بالإفراج عن دفعة من المساعدات الاقتصادية لمصر.
أي الموقفين في أميركا سيتغلب؟؟ مع العلم أن هناك انتخابات تشريعية في أميركا نوفمبر المقبل، من المنتظر أنها ستأتي بالجمهوريين. وماذا سيكون الحال لو دخلت داعش إلى الأردن وأصبحت على حدود إسرائيل؟؟
ماذا لو طلبت واشنطن من السيسي الحرب بالوكالة في العراق؟؟ هل سيتحمل الجيش المصري الضغط أكثر من ذلك؟؟ الله أعلم.